سبحانه، وهل يطيق بشر أن يفكر في ذاته؟
هل تطيق الذرة الهائمة التائهة الفانية المحدودة أن تحيط بحقيقة الأزل والأبد، التي لا آخر لها ولا حدود؟!
وإن اهتدت.. إن وصلت واتصلت بالله.. فما حاجتها إلى " التفكير " في ذات الله وهي واصلة إلى حماه؟!
وهل فرغ الإنسان من تدبر أسرار الكون، ليفكر في ذات الخالق سبحانه، ليس كمثله شيء؟
هل وصل في " علمه " إلى حقيقة جوهرية واحدة من حقائق الكون؟ أم إنه ما يزال في محيط " الظواهر " لا يجرؤ على الدخول في الأعماق؟
لقد دفعه الإقدام مرة فتقدم فحطم الذرة وكاد يصل إلى المجهول.. ولكنه فجأة تراجع.. من هول الانفجار!
لم يكن تفجر الذرة وانطلاق طاقتها الهائلة المروعة هو الذي أصابه بالذعر وأصابه بالذهول! وإنما كان " الكشف " الجديد الذي وصل إليه، فأعاده إلى حيث كان من أسرار الوجود.
لقد اكتشف أنه ليس ثمة " مادة "، وإنما هناك " طاقة "، وأن هذه الطاقة هي " المجهول " الذي بحث عنه ألوفاً من السنين أو ملايين، ثم عاد من حيث بدأ، لم يزد علماً إلا بظواهر الأشياء.
الأشياء الموجودة في الكون لا يعرف الإنسان " ذاتها ". لا يعرف جوهرها. وإنما يعرف من صفاتها ومظاهرها.
فأي قفزة في الفضاء مجنونة تلك التي تدفعه إلى أن يترك الأشياء المخلوقة المحدودة الصغيرة، التي يعجز عن معرفة ذاتها، فيحاول أن يحيط بالذات الإلهية، ويصل إلى " حقيقتها "؟!
خبل لايستقيم مع التفكير السليم.
فأبسط قواعد " المنطق " أنك إذا عجزت عن الصغير فأنت أعجز عن الكبير. وإذا عجزت عن أن تسير ميلاً فستهلكك مئات الأميال فضلاً عن الألوف والملايين.
والكون أمام الإنسان واسع هائل عريض..
فهل فرغ من أمره؟ هل وصل إلى آخر أبعاده؟ هل أحاط به علماً، بل تصوراً وخيالاً؟
فلنسمع هنا كلام العلم الرسمي فإنه وحده يبهر الخيال ويذهل الرءوس!
" إن أقرب نجم إلينا يبعد عن الشمس فوق الأربع من السنوات الضوئية. أي أن النور، وسرعته 186000 ميل في الثانية، يقطع المسافة من الشمس إلى أقرب نجم في نحو أربع سنوات. إنه على مسافة تبلغ نحواً من 000??? 000??? 000??? 000??? 26 ميل. إنك لو مثلت الشمس بنقطة أخرى تبعد عن النقطة الأولى بنحو 4 أميال " [34].
" المجرة قرص عظيم. وهي قرص مفرطح، كالرغيف... وقطر القرص نحو من 000??? 100 سنة ضوئية. والسنة الضوئية مسافة مقدارها 6 مليون مليون ميل. فقطر هذا القرص نحو من 600 ألف مليون مليون ميل. وارتفاعه نحو عشر ذلك " [35].
وهناك مجرات أخرى كثيرة في الكون غير المجرة التي تتبعها مجموعتنا الشمسية.
" هذه الدنييات، التي تشبه مجرتنا.. كم عددها؟ مائة؟ ألف؟ ألفان؟ لا. إنها مائة مليون من المجرات. مائة مليون جزيرة في فضاء هذا الكون الواسع وقد تزيد "!! [36].
هذا في " المحيط الخارجي " للكون. وهو مظهر واحد يعجز عن حمله الخيال وتعجز العقول.
فلننظر في الأرض وحدها. تلك الذرة الهائمة في الفضاء. هباءة منثورة في محيط الكون، لا تمسكها إلا القدرة القادرة الخالقة المبدعة.
كم جبلاً بها وكم نهراً وكم بحراً وكم بحيرة؟! كم كهفاً في جبالها وكم حفرة في أراضيها؟ كم نقطة من المطر تهبط إليها وكم ذرة من البخار تصعد منها آناء الليل وأطراف النهار؟
وكم بها من أنواح الحياة؟ الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية؟
كم ألفاً من صنوف النبات على وجه الأرض؟ وأي دقائق تفرق بين نبات ونبات مختلف ألوانه " يسقى من ماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل "؟
وكم ألفاً من صنوف الحيوان والطير والحشرات في السهول والفيافي والقفار والوديان والغابات؟
وكم مليونا من البشر من مختلف الألوان واللغات والعقائد والأفكار؟
بل النبات الواحد والحيوان الواحد والإنسان الواحد.. كم فيه من معجزات الخلق؟
الزهرة الواحدة البديعة التناسق المعجزة التلوين. هل يفرغ الإنسان من تأملها؟
إن أمهر المصورين وأقدر الرسامين ليعجز عن الإحاطة " بالفن " الذي تمثله زهرة واحدة من تلك الزهور.
فإن ما فيها من تعداد الألوان، وتدرجها، وتناسقها، وما فيها من جاذبية للعين والحس، زائداً كله عن عنصر الضرورة الذي يستلزم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث ولا زيادة.. إن هذا كله لآية تبهر النفوس.
و " التخصص " الذي يميز عضواً من عضو في كيان النبات الجذر والساق والأوراق والزهور.. وكلها من حبة واحدة تبدو للعين شيئاً واحداً لا تخصص فيه ولا تمييز!
وعملية التمثيل الضوئي التي تحول " طاقة " الشمس إلى " مادة "!
وتوزع النبات على سطح الأرض بحسب توزيع الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة.. بل بحسب توزيع النور والظلام! فقد أثبت العلم أن " اختلاف الليل والنهار " بمعنى انتظام دورتهما التي يخلف فيها أحدهما الآخر، وبمعنى اختلاف طولهما كذلك.. هو الذي يوزع النبات على سطح الأرض! فلكل نبات زهرة. والزهرة تتكون في فترة الإظلام لا في فترة النهار! وكل زهرة تحتاج إلى فترة معينة من الظلام حتى تطلع! ومن ثم تتوزع أنواع النبات على أطوال الليل والنهار بحسب حاجة كل زهرة إلى الظلام! وإذا أخذت نباتاً يحتاج إلى ظلمة اثنتي عشرة ساعة لكي يزهر، وزرعته في مكان ليله لا يزيد عن عشر ساعات، فإنه قد ينبت، ولكنه لا يزهر، ومن ثم لا يصل إلى الإثمار!
والحيوان الواحد كم فيه من موافقات عجيبة ومعجزات؟!
الحواس وحدها معجزة. والجلد والشعر معجزة. والأنياب والأظافر معجزة. وجهاز الهضم والتنفس والإنسال كلها معجزات.
كل عضو مخصص لوظيفة. وهي كلها في الأصل بويضة واحدة أو حيوان منوي - في رأي العين - غير مميز الأجزاء.
والإنسان.. قمة الحياة على سطح الأرض وسيد المخلوقات فيها.. كم معجزة في خلقه؟
ودعك من خواصه " الحيوانية " كلها، وإن كان في كل منها ما يحير العقل ويذهل الفكر، من شدة الدقة وعجيب التناسق وعظمة القدرة التي تهيئ لكل خلق ما يصلح له وما يعينه على أداء وظيفته.
ودعك من أن هذه الخصائص التي يشترك فيها مع الحيوان قد ارتفعت في الإنسان وصارت أروع وأعجب وأدق وأكمل.
وانظر في خصائصه التي تفرد بها وتميز على كل الخلق. انظر إلى عقله وانظر إلى روحه. أي إعجاز. أي إعجاز!
ما العقل؟ كيف يفكر؟ كيف يصل إلى الحقائق؟ كيف يرتب بعضها على بعض ويستنبط بعضها من بعض؟
وما التفكير؟ كهرباء هو أم مادة؟ أم طاقة؟ وكيف تميزت عن الطاقات الأخرى كلها وتفردت عنها؟
وما الروح؟ ذلك المجهول؟
كيف يتسنى للإنسان الضعيف القوة، المحدود الطاقة، المحدود مدى الحواس، أن يتصل بالمجهول الأعظم ويقبس منه قبسات؟
كيف يحدث التليباثي (التخاطر من بعد) كما حدث لعمر بن الخطاب حين صاح يا سارية الجبل! وسمعه سارية على بعد ألوف الأميال؟
كيف يحدث الحلم التنبئي الذي يكشف جانباً من المجهول الذي لم يحدث بعد في محيط الحواس؟
بل كيف يحدث " المعلوم " من حب وكره، ونسيان وتذكر، وخصام وألفة، ونثر وشعر، وعمل وتفكير؟
بل نرجع إلى الوراء خطوة لنسأل:
ما تلك القوة العجيبة الكامنة في البذرة، فإذا هي تنمو، وإذا هي تخرج شطئاً ينفذ من باطن الأرض بقوة ليظهر على السطح، ثم يطول ويورق ويزهر ويثمر ثم يموت؟
وما تلك القوة العجيبة الكامنة في البويضة والحيوان المنوي، فإذا لقاؤهما المعجزة الكبرى التي تنشئ الحياة؟
بل ما تلك القوة الكامنة في الخلية الحية. الخلية المفردة الواحدة التي بدأت الحياة منها على سطح الأرض؟
بل ما تلك القوة العجيبة الكامنة في الخلية الجامدة أو التي تخال جامدة في " الذرة " المجسمة في المادة، أو المنطلقة في الإشعاع.
هل يعرف الإنسان ما تلك القوة أو يملك أن يصل إلى الأسرار؟
ذلك مبلغ الإنسان من " العلم " ومبلغه من " الحقيقة ".
ومع ذلك لا يعرف قدر نفسه، ويروح يشطح في الآفاق.
يريد أن يعرف " الحقيقة " الكبرى. يريد أن يحيط بذات الله. فهل يقدر؟
هب أن أحدا لم يمنعه ولم ينهه من التفكير.. فكيف يصل؟ بأية أداة وأية وسيلة؟
العقل؟
أو ليس العقل ذاته هو الذي قال للإنسان: إن المحدود لا يحيط بغير المحدود، والفاني لا يحيط بمكن لا يدركه الفناء.
فيم إذن تسخير العقل فيما يقول العقل ذاته إنه مستحيل؟
وهل وصل الناس إلى شيء حين سخروا عقولهم لذلك المبحث المستحيل؟
هل وصلت " الفلسفة " في جميع أطوارها وجميع محاولاتها إلى حقيقة واحدة مستقرة تكشف للناس عن المجهول؟ أم باءت كلها بالفشل الجازم والعجز المحتوم!
وهل هذه التخبطات التي كتبها الفلاسفة في شأن الله حقيقة بأن ينظر إليها عاقل ويوليها شيئاً من اهتمامه؟
وفيم هذا العناء كله؟! ما وراء النطح في الصخرة التي تحطم الرءوس؟!
أيريد أن " يصل " إلى الله؟ سبحان الله! فما له لا يصل عن الطريق المعبد المفتوح؟ ما له يلف ويدور، ويعود " كالمخووت " الذي ركبه الخبال!
يريد أن يصل إلى الله؟ أما يحس في أعماق نفسه السبيل؟ أما يترك العنان للفطرة وهي تصل به إلى هناك؟ أما يدع روحه تحلق وحدها، عارفة طريقها إلى النور الذي قبست منه وهي كائنة في علم الله منذ الآزال والآباد..؟
الطريق هو الإيمان!
والفطرة تعرف الطريق!
وما يحتاج الإنسان إلا إلى أن يدع فطرته على سجيتها. لا يكبلها بقيود مصطنعة من فلسفة منحرفة أو علم فطير. ولا يغشيها بركام الشهوات الغليظة والنزوات الهابطة التي تحجب شفافيتها وتمنع عنها النور.
وهي وحدها تهديه إلى الله.. لأن الله فطرها على الهدى إليه!
وإن أراد عوناً للفطرة وهي في الطريق إلى الله.. فليكن ذلك العون الأكبر هو تدبر آيات الخلق، والبحث عن آيات القدرة في صفحة الكون الحافلة بالمعجزات.
فذلك هو الذي يطيقه. وذلك هو الذي يعينه على السبيل.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [37].
وآيات الله في الكون عميقة الغور جداً، وهي في الوقت ذاته معروضة في وضوح ويسر لكل عين متفتحة وكل قلب طليق.
(وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) [38].
إن الكون كله آية الله. وفي كل شيء منه آية لمن أراد التذكر أو ألقى السمع وهو شهيد.
الليل والنهار. الشمس والقمر والأفلاك. السحاب والمطر. النبتة الحية الخارجة من الحبة الميتة (في ظاهر العين) والحطام الميت الذي ينتهي إليه النبات الحي. الأرض " الميتة " التي تخرج الحياة والحياة التي تفضي في الأحياء جميعاً إلى الموت. الإنسان الذي صوره الله فأحسن تصويره. الأرض التي بث فيها من كل دابة. التوافق بين الحياة والأحياء يبدو في الأشعة الكونية التي يرسلها الفضاء للأرض فلا تقوم بدونها الحياة، كما يبدو في النسب المضبوطة من البحر واليابس، والأكسجين والإيدروجين والنتروجين.. ومدى صلابة القشرة الأرضية، ومدى تأثر الأرض بالجاذبية، ومدى بعدها عن الشمس ومدى سرعتها أمامها.. إلى آخر هذه الموافقات.
والرسول الكريم r يدعو الناس إلى تدبر آيات الله في الخلق. والقرآن الكريم يفصل هذه الآيات تفصيلاً، لا تكاد سورة واحدة تخلو من ذكر آية منها أو آيات..
(إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [39].
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [40].
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [41].
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [42].
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ) [43].
وهكذا وهكذا لا تخلو سورة من إشارة عابرة أو مفصلة لآيات القدرة القادرة المبدعة المعجزة المدبرة المريدة.
والله هو فاطر هذه النفس البشرية العالم بدروبها ومنسرباتها، وبما يصلحها وما يصلح لها. وقد اقتضت حكمته أن تكون الفطرة ذاتها مهتدية إلى الله، بالطريقة الخفية التي هدى بها كل شيء إليه: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [44] دونما كد ولا جهد ولا عناء في الاهتداء إليه، كما يسير الكهرب في الذرة في مساره المرسوم، وتسير الذرة في مادتها في مسارها المرسوم، وتسير الأرض والكواكب والأفلاك في مسارها المرسوم، لا تحمل عناء السير، ولا تشق نفسها في استكناهه، وإنما تسلم نفسها لله العزيز العليم..
كما اقتضت حكمته - وقد خلق للإنسان عقلاً ميزه به من سائر الخلق الذي نعرفه - أن يكون دور العقل الواعي في الاهتداء إلى الله مساندة الفطرة الخفية المسارب، و " توعية " مسارها (أي جعله واعياً واضحاً مفهوماً) ؛ ورسم لذلك منهجاً واضحاً وطريقاً مستقيماً.. هو تدبر آيات الله في الكون.
وحقاً إنه لكذلك.. فما يتدبر الإنسان هذه الآيات بوعي يقظ وقلب متفتح إلا هدته من فورها إلى الله، خالق الكون والحياة.
ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. إن الله لم يكلف الناس أن يبحثوا في ذاته سبحانه. لم يكلفهم الجهد الذي يعلم - سبحانه - أنهم لن يقدروا عليه قط، وأن قصارى ما يحدث لهم حين يحاولون أن تنفجر طاقتهم وتتبدد، كما تنفجر طاقة الذرة التي انحرفت عن مسارها، فتتحطم وتحطم ما تلقاه في الطريق!
وحين نهى الرسول الكريم أتباعه عن أن يفكروا في ذات الله كيلا يهلكوا، لم يكن r يحجر على تفكيرهم أو يضع عليهم القيود.
كلا! إنما كان يوفر جهدهم للنافع من الأعمال. كان يصون هذا الجهد أن يتبدد سدى، ويؤدي إلى الضلال. كان يريد للناس أن ينفقوا طاقتهم - بعد أن يقضوا حظهم من تدبر آيات الله في الكون والاهتداء إليه - في تعمير الأرض وزيادة " الإنتاج ". الإنتاج بمعناه الواسع الشامل العميق. الإنتاج الروحي والفكري والمادي. في ميدان العقيدة وميدان الجهاد وميدان العمل بمعناه الاصطلاحي المفهوم.
ولقد حدث ذلك بالفعل...
حين صان المسلمون طاقتهم أن تتبدد وتنفجر وتتناثر في أودية الضلال.. كان لهم إنتاج ضخم، هو أكبر إنتاج في التاريخ حين يقاس بمقياس الزمن ومقياس الرقعة ومقياس القيم ومقياس الحضارة المادية ومقياس العلم.. وكل مقياس يصلح للقياس.
ففي فترة قصيرة لا مثيل لها في التاريخ امتد العالم الإسلامي من المحيط إلى المحيط، وامتدت معه مبادئ الإسلام الشاملة للسماء والأرض و العمل والعبادة والدنيا والآخرة. وقامت " نظم " للحكم والسياسة والمال والاقتصاد غير مسبوقة من قبل، تحمل في أطوائها العدالة الاجتماعية، وتنشئ مجتمعاً مترابطاً متكافلاً متحاباً متواداً ظل ألف سنة على ترابطه وتكافله حتى بعد أن فسدت الحكومات وابتعدت عن روح الدين. وامتص الإسلام كل ما وجده نافعاً من الحضارات المادية السابقة له والمعاصرة له، ثم أعطاها الحياة.. فانطلقت تعمل في تعمير الأرض وقد اصطبغت بصبغة الإسلام وتشربت روحه، فصارت تعمل في الأرض وهي تتجه إلى السماء. وتبنى الإسلام كل ما وجده من العلم لدى الإغريق والهنود - من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء.. إلخ، ثم أضاف إليه إضافات شتى بحيويته وقوته الدافقة الدافعة إلى الأمام..
ولم يكن " الفكر " الإسلامي عاطلاً ولا محجوراً عليه. وإنما كان - فيما عدا القلة الشاذة التي انحرفت بتأثير الفلسفة الإغريقية بعض الانحراف (لا كله) - يتجه إلى خير الناس في الأرض، ويسعى إلى سعادتهم بكل وسائل السعي. ويرى أنه حين يبحث في العلوم - البحتة أو التطبيقية - وحين يتعمق في الفقه الذي يشمل سياسة الحكم وسياسة الاقتصاد وموقف الفرد وموقف الدولة وموقف المجتمع وعلاقات بعضهم ببعض في كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة اليومية والحياة العامة، كما يشمل العبادات بكل تفريعاتها، وحين يعمل في ميدان الجمال الفني في صوره التي كانت ميسرة لهم من رسم وزخرفة وعمارة وشعر ونثر.. إلخ يكون قد قام بواجبه الأمثل وحقق وجوده الكامل. وأنه ترجم التدبر في آيات الله إلى فكر نافع وعمل نافع وقيم حية متحركة في واقع الأرض، لا في الأبراج العاجية، ولا في عالم المثاليات.
وكان ناجحاً في رسالته التي استمدها من كتاب الله وسنة رسوله.
ولكننا نقلب صفحة أخرى لقوم لم ينتصحوا بنصيحة الله والرسول..
قوم في أوربا راحوا ينفقون طاقة علمائهم ومفكريهم في البحث في ذات الله وما أشبه ذلك من الأمور.
ونعرض لإنتاجهم الفكري في هذا الباب عرضاً " موضوعيا " فنجد لا شيء!
ومن كان في شك من ذلك فليقرأ كل ما كتبته الفلسفة في هذا الموضوع، ثم ليسأل نفسه: هل زاد معرفة بالله عن هذا الطريق؟ هل " وضحت " له المعالم؟ هل " وصل " إلى شيء لم يكن يصل إليه وهو يتدبر آيات الله في الكون ويفتح بصيرته على القدرة المعجزة في كل اتجاه؟
أم العكس هو الصحيح؟ اختلطت في ذهنه الشيات والملامح، والتصورات والأفكار؟ وتاه في محيط من الجدل المتناقض الذي لا يركن إلى قرار؟!
صورة في ذهني تتمثل لعمل أولئك الفلاسفة! تلك مرآة لامعة يبصر فيها الإنسان وجهه بكل دقائقه، ولكن فيها قطعة " مغبشة " هنا أو قطعة مطموسة هناك، فيروح هذا " الفيلسوف " يحاول أن " يجلوها " فيمسح بأصابعه وجه المرآة، فإذا القذر من أصابعه قد غبش الصفحة كلها، وإذا الصورة التي كانت واضحة لم تعد تبين!
ودعك من القيمة الموضوعية لهذه الأفكار، وانظر كيف كانت النتيجة.. كيف كان عاقبة الذين أبوا أن ينتصحوا بأمر الله ويهتدوا بسنة رسوله.
لقد " حلق " المفكرون والفلاسفة في أبراجهم العاجية وتركوا الناس في الأرض.. تركوا الناس يأكلهم الظلم والإقطاع والجهل والجمود والتفكك. فهذه المظالم ترتكب كل يوم، والكادحون تُمتص دماؤهم وهم صاغرون مغلوبون على أمرهم.. بينما السادة المفكرون في جدل أخرق لا هو يهتدي إلى نتيجة، ولا هو ينزل إلى الأرض ليرى آلام الناس ويحاول أن يبحث لهم عن علاج..
وكفر الناس.. وحق لهم أن يكفروا..
كفروا بالفلسفة " المثالية " التي تحلق في عالم الخيال وعالم المثل، وتترك واقع الأرض المنتن ينغل فيه الدود..
وقاموا يحطمون هذه " المثالية " المتعفنة التي لا قلب لها ولا ضمير.
ومع المثالية الخاوية حطموا - مع الأسف - فكرة الله والعقيدة.
حطموها، لأن هذه المثالية كانت تدور حول فكرة الله، وتزعم أنها تصل إلى " جوهر " العقيدة.
وعلى أنقاض فكرة الله والعقيدة، وأنقاض الفلسفة المثالية الخاوية قامت فلسفة مادية جاحدة لا تعرف الله ولا تؤمن بالعقيدة.
وتشعبت تلك الفلسفة حتى شملت كل جوانب الحياة..
دارون، وماركس، وفرويد، والتجريبيون والسلوكيون.. التفسير المادي والتفسير الاقتصادي للتاريخ.. والوجودية والانحلالية واللادينية واللاخلقية واللا.. إنسانية!
ومضت أوربا في طريقها المجنون الذي لا ينتج إلا الدماء في نهاية الطريق.
إن أوربا لم تتقدم في ميدان العلم والعمل إلى حين أخذت بشق من نصيحة الرسول الكريم، فانتبذت التفكير في ذات الله، ووجهت طاقتها لتعمير الأرض في واقع الحياة.. وخطت خطوات جبارة في هذا السبيل.
ولكنها - مع الأسف - لم تأخذ نصيحة الرسول كاملة، ولم تهتد بهديه السليم. لم تأخذ منها عبادة الله، والتوجه إلى الله.
ومن ثم انطلقت - بقوتها المادية الهائلة النامية المتزايدة - انطلقت تعبد الشيطان.
(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)!
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)!
وكانت النتيجة هي القوة المادية الهائلة التي تتمتع بها أوربا، والضلال المبين الذي تغرق فيه.
الرأسمالية هنا والشيوعية هناك..
كلاهما انحراف عن استقامة البشرية، وكلاهما قائم على أسس مادية خالصة لا تؤمن بالله الإيمان الحق. ولا تحكمه في أمر من أمور البشرية.
الحقيقة عندهم هي ما تستطيع الحواس أن تدركه. وكل ما لا تستطيع الحواس إدراكه فهو ساقط من الحساب.
وأمور العقيدة في عالم الغرب الرأسمالي أمور " تستعمل من الظاهر " وليس لها في واقع الحياة نصيب. لا في التوزيع الاقتصادي العادل الذي يرضي الله ورسوله، والذي لا يكون فيه المال " دولة بين الأغنياء منكم " ولا في الأخلاق التي ترفع الإنسان عن مقاذر الشهوة وحيوانية الغريزة.
وأمور العقيدة في الشرق الشيوعي مصادرة بأمر الدولة، حتى يكون الولاء كله " للدولة ". وحين رفع الحظر هناك عن الدين والعقيدة - لأسباب سياسية، للدعاية في الشرق الإسلامي خاصة - فقد رفع بعد أن صار الإلحاد يدرس رسمياً في المدارس، وتدعو له الكتب والصحافة والسينما والإذاعة وكل وسائل الدعاية، وصار الشباب الذي تربى في ظل المذهب محصناً ضد " جرثومة " الدين!
والنتيجة الأخيرة هي هذا الصراع المدمر الرهيب بين الشرق والغرب، وبين كل قوى الأرض.
حربان في ربع قرن.. والثالثة على الأبواب!
ما أحوج الناس إلى حكمة الرسول الكريم r .. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
منقول من كتاب قبسات من الرسول